شاه الغموض ما زال يلف عملية اغتيال الإعلامي التونسي الشاذلي القسطلي

القائمة الرئيسية

الصفحات

شاهد الفيديو / الغموض ما زال يلف عملية اغتيال الإعلامي التونسي الشاذلي القسطلي / Video Streaming

الاغتيالات نادرة في تاريخ تونس المعاصر، إلا أن أكثرها بقي لغزاً أسوة باغتيال فرحات حشاد مؤسس النقابات وقائد الحركة الوطنية بعد إبعاد الحبيب بورقيبة إلى المنفى في 1952، وتصرّ فرنسا على رفض الإفراج عن ملف الاغتيال. كما أرسل بورقيبة رجاله إلى فرانكفورت في 1961 لاغتيال غريمه صالح بن يوسف، الأمين العام للحزب، في غرفة الفندق الذي كان يُقيم فيه، ثم تبنى العملية علناً مانحاً أوسمة للقتلة.

الكتاب الجديد الذي أصدره أخيراً المؤرخ الدكتور عبدالجليل التميمي يُعيد إلى الأذهان عملية اغتيال أخرى طاولت الإعلامي والسياسي البارز الشاذلي القسطلي. ومنذ صدور أول صحيفة في البلد، وهي «الرائد التونسي»، التي ظهر العدد الأول منها في 22 جويلية 1860 حتى يومنا هذا، لم يتعرض أي صحافي تونسي للاغتيال، عدا صاحب صحيفة «النهضة» الشاذلي القسطلي، بينما اغتيل صحافيون كُثر في بلدان أخرى مثل الجزائر (120 اغتيالاً) والعراق ولبنان.

لم يكن القسطلي شخصية مغمورة وإنما كان إعلامياً بارزاً أدار بنجاح على مدى ثلاثين عاماً أهم صحيفة يومية في تونس، وهي «النهضة» التي أسسها عام 1923. كما اشترى مطبعة وأطلق مؤسسة إعلامية، وكان يستمد التمويل من شركة زراعية.

استمرت الصحيفة مُعبّرة عما نُسمّيه اليوم الخط التحريري لصاحبها من عام 1926 إلى أن احتجبت في أعقاب اغتيال مؤسسها في ماي 1953 برصاصتين في الرأس، بينما كان يهم بدخول مكتبه. وما زالت سحابة سميكة من الغموض تلف إلى اليوم أسباب الاغتيال وملابساته وهوية منفذه ومن يقف خلفه، حتى صدور كتاب التميمي الذي يحمل عنوان «من ملفات الذاكرة الوطنية الجريحة: اغتيال الشاذلي القسطلي» (180 صفحة بالعربية والفرنسية)، والذي جمع بين دفتيه مجموعة منوعة من التقارير والوثائق تُلقي أضواء جديدة على ذلك الحدث.

القسطلي من وجوه الحركة الوطنية، على رغم خلافاته مع قيادات «الحزب الحر الدستوري»، إذ شارك في مؤتمر الاستقلال الذي يُعرف بـ «مؤتمر ليلة القدر» (1946) بعد تشكيل الجبهة الوطنية عام 1945. وقبل ذلك استضاف في بيته عام 1919 اجتماعات الحزب الدستوري للإعداد لإرسال الوفد الوطني الأول إلى باريس. ثم كان من مؤسسي الحزب الإصلاحي بمعية المحامي حسن القلاتي في 1921. وتشكّل الحزب من زيتونيين (طلاب في جامعة الزيتونة) أكملوا دراستهم في جامعات فرنسية وجزائرية.

انتقد القسطلي بشدة سياسة تجنيس التونسيين التي توخّتها فرنسا في أعقاب سن مرسوم 1923، واعترض بقوة على عقد المؤتمر الأفغارستي (المسيحي) في قرطاج عام 1931، احتفاء بمرور نصف قرن على احتلال تونس، وكان الإعلامي الوحيد الذي أماط اللثام عن أسماء المسلمين الأعضاء في اللجنة الفخرية للمؤتمر. وشارك في إضراب 1946 ضد الرقابة المسلّطة على الصحافة العربية، إضافة إلى تنديده في السنة ذاتها بلائحة الحزب الاشتراكي الفرنسي (فرع تونس) المُطالبة بقيام «الاتحاد الفرنسي التونسي» الذي يدفن مشروع الاستقلال. غير أن القسطلي كان لا يتوانى أيضاً عن معارضة قيادات الحركة الوطنية إذا لم تتوافق مواقفهم مع رؤيته للأمور، فوقف ضد حركة الإضراب التي دعا لها فريق من الحزب الدستوري بزعامة الهادي نويرة وسليمان بن سليمان ضد فريق آخر بقيادة رئيس الحزب محمود الماطري عام 1937، ولم يسلم من نقده زعيم الحزب الحبيب بورقيبة وأمينه العام صالح بن يوسف.

الأرجح أن الخلاف بينه وبين قيادة الحزب حول الموقف من الانتخابات البلدية في 1953 كان القشة التي قصمت ظهر البعير، إذ قرر الحزب مقاطعتها، فيما كان القسطلي يتأهب للمشاركة فيها، هو الذي كان يشغل قبل ذلك منصب نائب عمدة مدينة تونس. وينسب مؤرخون تنفيذ الإعدام إلى المنظمة السرية التي أطلقها الحزب باسم «اليد السوداء»، والتي كُلفت التخلص من المعارضين والمنشقين. وتتطابق مع هذا التأويل رواية أحمد توفيق المدني، القيادي في الحزب الدستوري القديم، الذي يصف في كتابه «حياة كفاح» ما حصل كالتالي: «أما جريدة النهضة وكتّابها فقد استمروا على سلوكهم إلى أن انتهى أمرها مع إشراق شمس الحرية والاستقلال الغالي على ربوع تونس، بعد أن صرع أحد الفدائيين الأحرار مديرها الشاذلي القسطلي». ويعزو المؤرخ منصف الشابي أسباب الاغتيال إلى شدة العداوة بين الإعلامي المغدور وقيادة الحزب، إذ كتب يقول «قُتل كذلك رمياً بالرصاص مدير جريدة «النهضة» لأنه تشدّد في انتقاداته تجاه الحزب الحر الدستوري الجديد، وفي شكل خاص ضد أمينه العام الزعيم صالح بن يوسف».

كان القسطلي ينتقد فعلاً أسلوب القيادة داخل الحزب الدستوري، ويرى أن هذه الأخيرة «تجهر بمبادئ استبدادية»، فتراه يُؤاخذها على «الانتصار لمبدأ توحيد الرأي العمومي في البلاد من حول سلطة قوية، لا يُسمونها بالمستبدة وإنما بالقوة الاجتماعية، إذ إن كل من يعارض تلك القوة أو يُندّد بأخطائها، يُلقى به في غياهب السجون أو يُشرّد في المنافي ويُجرّد من الوطنية كأنما هو عدوٌ للمجتمع». وما زاد من تعميق الهوة بين الجانبين مساندة صاحب «النهضة» الطلبة الزيتونيين ومنظمة «صوت الطالب الزيتوني» في تحركاتهم ضد المستعمر وكذلك ضد قيادة الحزب التي كانت تسعى لفرض سيطرتها عليهم.

بهذا المعنى شكّل فرض الانضباط على الجميع أحد دوافع اغتيال القسطلي، لكن من الصعب أن يكون قرار تصفيته صادراً من القيادة العليا للحزب، إذ إن رئيسه الحبيب بورقيبة كان منفياً منذ بواكير 1952، وكان الاتصال به عسيراً ومُعقّداً، ما يجعله غير قادر على مواكبة مجريات الوضع أولاً بأول. غير أن ذلك لا يُبرر الاستهانة بعملية الاغتيال التي طاولت رجلاً وطنياً لعب دوراً محورياً ليس فقط في المجالين الإعلامي والسياسي، وإنما أيضاً في المجال الاجتماعي والثقافي والرياضي والكشفي، إذ كان نقيب الصاغة في سوق الذهب البركة ومؤسس «النادي التونسي» و «الجمعية الخيرية الإسلامية» مع الشيخ محمد صالح النيفر، كما أسس أول جمعية مسرحية عربية سماها «جمعية الآداب» بمشاركة 21 ممثلاً وممثلة. وكان له دورٌ بارزٌ في إغاثة الليبيين بعد اجتياح إيطاليا بلدهم في 1911. وأيد الجمهوريين الإسبان ضد الانقلابيين بقيادة فرانكو. إلا أنه عارض التوطين الدائم للمُهجّرين الجمهوريين في تونس، من باب دفاعه عن حقوق اليد العاملة التونسية.

ليس مفهوماً اليوم أن يبقى الغموض مُحيطاً بظروف اغتيال شخصية وطنية تعرّضت للملاحقة والمحاصرة من السلطات الاستعمارية. كما لا ينبغي أن يستمر التعتيم على الدور التاريخي لصحيفة «النهضة»، وما تعرضت له من مصادرات ورقابة ومضايقات مختلفة بأمر من السلطات الفرنسية، ما يدل على أنها كانت منبراً وطنياً ولم تكن موالية للاستعمار. وعسى أن يعكف المؤرخون على الوثائق الجديدة المُفرج عنها لإنارة الرأي العام حول هذا الحدث التاريخي المنسي وخلفياته والأطراف المشاركة فيه.

المصدر: حقائق