كتب نوفل سلامة :
يواصل منتدى الفكر التونسي التابع للمندوبية الجهوية للشؤون الثقافية بأريانة ضمن نشاطه الثقافي الشهري تناول القضايا الفكرية الهامة وفتح زوايا نقاش جديدة في المسائل المنسية والمغيبة وندوة يوم الأربعاء 14 مارس الجاري تندرج ضمن هذا الاطار من خلال التعرض إلى قضية أخرى من قضايا تاريخ تونس المعاصرة ومناقشة مسألة مقلقة في كتابة التاريخ التونسي لم تلق القدر الكافي من العناية والاهتمام حيث أراد المشرفون على المنتدى الذي يتولى تقديم ندواته الأستاذ عيسى البكوش التوقف عند قضية مساهمة سكان الأرياف التونسية في حركة التحرر الوطني والدور الذي لعبه المناضلون في الجهات الداخلية في مقاومة المستعمر الفرنسي والانضمام إلى المقاومة المسلحة التي اندلعت سنة 1952.
كان هاجس هذه الندوة هو سؤال الريف التونسي ودوره في حركة التحرر الوطني ؟ ومعرفة الدور الذي لعبته الأرياف والقرى في مقاومة المستعمر الفرنسي ؟ ولماذا غيبت دولة الاستقلال دور المناضلين في المناطق الريفية التونسية ؟ وهل كان من كتب التاريخ المعاصر للبلاد منصفا في السردية التاريخية التي فرضها حينما غيب جهد سكان الأرياف في نحت التاريخ المعاصر ؟ وكيف نفسر عملية الاقصاء التي تعرض لها سكان الأرياف في عملية كتابة التاريخ التونسي ؟ وقبل ذلك وبعده هل نحتاج اليوم إلى كتابة جديدة للتاريخ التونسي تنصف جزءه المنسي والمغيب ؟ وهل هناك من مبرر لإعادة صياغة جديدة لبعض المحطات من تاريخنا المعاصر وإعادة كتابتها بطريقة تنصف الفاعلين الحقيقيين فيها وتعيد الاعتبار للكثير من الأشخاص والجهات التي ساهمت مساهمة فاعلة في حركة التحرر الوطني؟
في هذه الندوة التي أثثها المؤرخ الدكتور عبد الحميد الهلالي تم الحديث عن الكيفية التي كتب بها التاريخ التونسي وعن المحاور والقضايا التي ركز عليها والأحداث التي أبرزها وعن عملية التغييب والتجاهل التي طالت الريف التونسي عند كتابة السردية التاريخية للشعب حيث أبرز المحاضر أن هناك كتابة تاريخية مهمة لم يعتن بها كتاب التاريخ هذه الكتابة تسمى التاريخ المواطني الذي يبرز جهد الفرد والمواطن في الأحداث التاريخية وهذه الكتابة هي اليوم مطلب شعبي ودعوة طفحت بقوة بعد الثورة لإنصاف كل سكان البلاد وهذا النوع من التاريخ يعتني بالمهمشين وكل من تم نسيانه في التاريخ فسكان القرى والأرياف في تونس كانت لهم مساهمة فعالة في مقاومة الاستعمار الفرنسي من خلال رفض سياسته التي اتبعها مع أصحاب الأراضي الرامية إلى افتكاك أراضيهم ومزارعهم وتحويلهم إلى خدم وعملة عنده فكانت السياسة الاستعمارية مع المزارعين من سكان القبرى و الأرياف قد جعلت الريف التونسي ينتفض في وجه الغاصب للأرض وجعلت الكثير من سكان الأرياف ينخرطون في المقاومة التي اندلعت في المدن والحواضر بما يجعل من مقاومة المستعمر وحركة التحرر الوطني غير مقتصرة على العاصمة فقط وإنما حركة التحرر الوطني هو جهد شارك فيه كل التونسيين كان للأرياف والقرى والفلاحين وسكان المناطق الداخلية جهد كبير فيه غير أن دولة الاستقلال قد اقصت عند كتابة تاريخ الحركة الوطنية هذا الجهد وأغفلت الدور الذي لعبه الكثير من الأفراد من الريف التونسي في إحراج المستعمر وجعلته يعجل بالرحيل والخروج من البلاد .
تحدث الدكتور عبد الحميد الهلالي عن حركة المقاومة التي اندلعت في قرى مناطق الشمال الغربي بعد إعلان الحماية سنة 1881 وانتفاضة القبائل الكثيرة وذكر المعارك التي دارت بين جيش الاستعمار والمقاومين من سكان الأرياف في جبال خمير وسهول وادي مجردة العليا وفي الكثير من قرى الجنوب والوسط ومن نتائج هذا الحراك الشعبي في الجهات تكونت نخبة مقاومة جهوية تسلمت قيادة الحركة الوطنية في الأرياف وبدأت في تنظيم نفسها من خلال العمل السياسي الحزبي والانضمام إلى الحزب الدستوري القديم والجديد والانخراط في العمل النقابي فتكثفت الاجتماعات والدعاية والتوعية بضرورة مقاومة المستعمر الفرنسي فكانت الأسواق الاسبوعية مناسبة لبث روح الحماسة وتحشيد الناس ودعوتهم لمقاومة الاستعمار وعدم الاستسلام لسياساته الاستيطانية وقد تفطن المستعمر إلى خطورة المقاومة الريفية فقام باعتقالات كثيرة وحاكم الكثير من الرموز الجهوية ونفي البعض منهم وأعدم آخرين وقام بترهيب الأهالي وتوخي سياسة إعلامية خطيرة بغية تقسيم الشعب وفك الارتباط بين الحركة الوطنية في العاصمة وبين المقاومة في الجهات واتبع سياسة دعائية تروج إلى أن سكان الريف مسالمون وأن فرنسا تحميهم وتوفر لهم الأمن ولكن سكان المدن يسببون لهم المشاكل.
لم تفلح هذه السياسة الاستعمارية في عزل الأرياف عن العاصمة ولا في إبعاد المقاومة الريفية عن النضال السياسي أو الانضمام إلى حركة التحرر الوطني بل من أن تصبح قلبها النابض وقد ذكر المحاضر الكثير من المعارك التي دارت في الريف التونسي وذكر أسماء الكثير من الموز التي استشهدت في ميدان المعركة وأسماء أخرى تمت محاكمتها وإعدامها.
أهم ما نخرج به من هذه الندوة هو أن هناك في تاريخ الحركة الوطنية الكثير من الفاعلين الصامتين والكثير من المحطات المنسية والكثير من القضايا التي تحتاج إعادة نظر وأن حركة التحرر الوطني ليست العاصمة فقط ولا أشخاصا معينة وإنما حركة المقاومة التي قادت الكفاح الوطني هي أسماء عديدة الكثير منها مناضلين من سكان الأرياف ما نخرج به هو أن من كتب تاريخنا المعاصر قد اقصي جانبا من الجغرافيا وهمش جزء من السكان وحصر كل التاريخ في الحاضرة وفي شخص الزعيم الأوحد وكل هذا يمثل اليوم التاريخ المطحون الذي غيبته دولة الاستقلال وتنكر له المرخون الذين استعانت بهم لكتابة التاريخ الرسمي وهو تاريخ منقوص ومشوه لأنه لا يعكس حقيقة تاريخ الحركة الوطنية ولا ينصف كل من ناضل وقاوم المستعمر
الدرس الذي نخرج به من هذه المحاضرة هو أنها أكدت مرة أخرى أننا نحتاج إلى إعادة كتابة تاريخنا المعاصر بطريقة تقربه إلى حقيقة ما حصل وأن الكثير من محطاته تحتاج إلى مزيد من إلقاء الضوء عليها وأنه من الخطأ القول أننا كتبنا تاريخنا كاملا ولا حاجة من إعادة كتابته ثانية لقد بينت هذه الندوة أن جهدا كبيرا قامت به مناطق كثيرة من أريافنا في النضال الوطني قد تم طمسه من الذاكرة التاريخية وأن جهدا كبيرا للعديد من المناضلين قد تم هو الآخر محوه من التاريخ وهو لوحده يكفي للاقتناع بأننا نحتاج على الاقل إلى قراءة جديدة للتاريخ تحقق المصالحة المفقودة بين الشعب وتاريخه وتقدم للجميع سردية معقولة بنسبة كبيرة من الحقيقة التاريخية تعدل الكتابة الرسمية التي كتبها السياسي وتبرز الكتابة الوطنية التي يملكها المؤرخ المنصف.
المصدر: الصريح
TH1NEWS