شاه “الحلفاء”: ورقة ‬من مذكرات السجين السياسي تميم الحمادي في سجن الكرّاكة بغار الملح

القائمة الرئيسية

الصفحات

شاهد الفيديو / “الحلفاء”: ورقة ‬من مذكرات السجين السياسي تميم الحمادي في سجن الكرّاكة بغار الملح / Video Streaming

نشرت الاعلامية رشا التونسي ورقة ‬من مذكرات شقيقها السجين السياسي تميم الحمادي والتي من المنتظر أن تصدر في كتاب يحمل عنوان “الداموس”. وكان تميم الحمادي حوكم في قضية مؤامرة 1962 أو محاولة الانقلاب ضد بورقيبة التي صدرت فيها أحكام بالإعدام في حق 13 موقوفا ومنهم لزهر الشرايطي والهادي القفصي وصالح حشاني وكبير المحرزي وأحكام بالسجن في حق آخرين ومنهم تميم الحمادي وقدور بن يشرط وغيرهما.

ويذكر أنه تم نقل المتّهين إلى سجن الكرّاكة بغار الملح ثمّ الى سجن برج الرومي ببنزرت. وعاش المسجونون ظروفا سجنيّة قاسية جدّا ومنع النظام عائلاتهم من زيارتهم طيلة 7 سنوات وتمّ تعذيبهم في السّجن. وفي بداية جوان 1973 تمّ إطلاق سراح من بقي حيّا من المتّهمين بعد أن تمتّعوا بسراح شرطي وبعد أن أمضوا أكثر من 10 سنوات في السّجن.

وهذا ما جاء في الورقة التي سمحت لنا رشا التونسي بنشرها وكان تميم الحمادي رحمة الله عليه مسجونا في كراكة غار الملح آنذاك.

الحلفاء

“بعد أن أخرجنا إلى “اللارية” وركضنا في دائرة كأحصنة السيرك وبضربات الكرباج للمتقاعسين منا وعلى إيقاع الشتائم من الحراس، قضينا عشرة دقائق هكذا ثم أعيد ربطنا في الحائط من السلاسل التي في أقدامنا، وقبل غلق الباب دخل “كبران السنترة” والذي يعد من كبار المساجين وأقدمهم، وهو يحمل في كل يد ربطة كبيرة من الحلفاء تقطر بسائل أسود اللون، ألقاها في وسط دائرة “عنق الجمل ” وخرج وأغلق الحراس الباب.

انتشرت في الزنزانة رائحة تبعث على القيء، خليط من رائحة المجاري القديمة والجديدة ورائحة المراحيض والبوالات، لم يتمالك البعض منا نفسه فتقيأ من قوة الرائحة المنبعثة من الرزم وبقي الصمت مخيماً لدقائق في عنق الجمل، والتفتنا إلى محمد صالح البراطلي وآخرين إلى حسن مرزوق نسألهم بوصفهم مساجين قدامى، الأول مع اليوسفية والثاني خلال الحركة الوطنية تحت الاستعمار الفرنسي، وأفادنا الاثنان أن مساجين غار الملح يصنعون “الشوامي” جمع”شامية” تستعمل في المعاصر لعصر عجين الزيتون، وكنا قد شاهدناها منشورة من قبل لكن بدون تلك الرائحة الكريهة، واستفدنا أن الحلفاء عند قدومها تنقع في ماء البحر كي تصبح لينة ومطاوعة مدة قبل صنعها ثم توزع على المساجين. زيادة في “العناية ” بنا وضعت هذه الحزم التي خصصت لنا في مصارف المياه المستعملة للسجن قبل مجيئها إلينا، وهذا يعتبر عقاباً بالنسبة للمساجين المتمردين.

وتساءلنا كيف لنا أن نتمرد ضمن هذه الظروف. ومن تلك الحزم بدأ دود ابيض بذيل ينتشر في كل اتجاه، عرفنا فيما بعد أن يسمى”أم ذنيبة” مضى الوقت ونحن نراقب ونشاهد ونتساءل ونتعجب ولم نمسس تلك الرزم، وفتح الباب وجاءت “القميلة” والخبز ثم أغلق الباب.

في العشية قدم “الكبران” لحل السلاسل، وأخرجنا إلى “اللارية” ويا للهول، وكانت الساحة مليئة بالحراس وبيد كل منهم كرباج، أشبعونا ضرباً أكثر من العادة، وشتما فينا وفي آبائنا وأمهاتنا وسمائنا، وصفونا بكل الأوصاف القذرة ولا أستطيع أن أنسى وجه رئيس الحرس وقد انشرحت تقاسيم وجهه وهو يدخن سيجارة بشغف كبير ويعطي الأوامر على الحراس لإيقاف من سقط منا ليكمل الجري، منذ سجننا أصبح دوره أكثر أهمية، حيث يقع الاتصال به من أعلى ليقدم تقاريرا يقرأها كبار المسئولين.

في الباب الخارجي “لعنق الجمل” كان الحارس الممرض وبيده زجاجة كبيرة من الميكروكروم يداوي ما أحدثته السياط والأرض الحجرية من جراح في أبداننا، وتعمد أن يبقي حسن مرزوق الأخير وقبل أن يغلق الباب أفهمه أن علينا صنع الحلفاء وأن هناك تعليمات شديدة من فوق لذلك، وحاول حسن أن يفهمه أننا لا نعرف كيفية صنعها فأجابه: – أنت والبراطلي تعرفون صنعها فعلموهم.

في المساء عاد الممرض وألقى نظرة وما أن رأى حزم الحلفاء كما هي، أغلق الباب ورجع على أعقابه ثم عاد ومعه مجموعة من الزملاء ودخلوا علينا رفساً وركلاً وضرباً، وخصوا البراطلي بمعاملة خاصة والكل يضرب ويصيح: – اخدموا الحلفا اخدموا الحلفا… حاولنا طويلاً شرح أننا لا نعرف كيف تخدم ولا كيف تصنع وحتى البراطلي لا يتذكر ذلك.

في اليوم التالي عند خروجنا ” للراية” أستبقي كبران السنترا البراطلي ليذكره كيفية الصنع ليعلمنا فيما بعد، ولم يقع جلدنا أو شتمنا في تلك الفسحة، ولم نقيد كالعادة عند دخولنا زنزانتنا، وقف الحارس الأول مع الحراس في الرواق الخارجي يراقبوننا كيف أخذنا الحلفاء وتجمعنا حول البراطلي “لنتعلم” وهم يبتسمون ساخرين منتصرين.

امتلأت الزنزانة بدود “أم ذنيبة” عند فتحنا رزم الحلفاء، وكانت الرائحة قوية لا تطاق، في داخل الرزم كانت بقايا “الخراء” ما زالت عالقة كما هي، قمنا بعد خروج الحراس بغسلها بالقليل من الماء الذي لدينا، فنحن نزود بسطل من ماء الشراب وسطل من الماء المالح للغسيل مرة في اليوم، ولم يكن هناك مصرف للماء بل مجرى صغير مكشوف، بدأنا بالتعامل مع الحلفاء بحذر وقرف ونحن نرى ونشم ونلمس كل تلك الأشياء اللزجة الملتصقة بها.

وكان لا بد عند محاولة الشغل أن تمس ملابسنا أو – ما يمكن أن نسميه ملابس- والتي سرعان ما تلوثت بتلك السوائل، خاصة وأننا لم نحذق التعامل معها، أما أقدامنا فقد أصبحت سوداء مما علق بأرض الزنزانة من سوائل ونحن حفاة منذ شهور. عندما جاء الطعام لم يكن لدينا صابون – فنحن لا نمس الصابون إلا مرة كل خمسة عشرة يوماً عن ذهابنا إلى الدوش- حاولنا الغسل بالماء قدر ما أمكن لكن بقي الكثير.

وفي المساء عندما جاء الغطاء وحتى بعد إخراج الحلفاء كان كل شيء قد تلوث بالنجاسة. هكذا مرت الأيام مرة، سليطة، خانقة، ظالمة، لكن بعد فترة لم تعد الحلفاء تأتي مغطسة بالمجاري، ربما اشتكى الحراس من رائحتنا وقذارتنا، فصارت توزع علينا كالتي توزع على المساجين لكن بدون غسيل، وإن وقع زيادة نصيبنا من الماء المالح حتى نتمكن من تنظيف أنفسنا قليلاً، بقي الصابون محرماً سنوات وسنوات”.

-الصورة أثناء المحاكمة: تميم الحمادي هو الآول على اليسار والمدني في الوسط هو الأزهر الشرايطي، العسكريين الثاني على اليسار هو صالح الحشاني والرابع من اليسار كبير المحرزي وقد حكم على الإثنين بالإعدام.

شيراز بن مراد

المصدر: الجمهورية