شاه أحمد الهرقام يكتب لكم : قراءة على هامش كتاب سالم المنصوري “أحمد بن صالح وزمانه”

القائمة الرئيسية

الصفحات

شاهد الفيديو / أحمد الهرقام يكتب لكم : قراءة على هامش كتاب سالم المنصوري “أحمد بن صالح وزمانه” / Video Streaming

كتب أحمد الهرقام:

صدر منذ أيام قليلة كتاب “أحمد بن صالح وزمانه” من تأليف الأستاذ سالم المنصوري، وهو كتاب استغرق في جمعه وتأليفه أكثر من خمس سنوات جمع فيه بكل صبر وثبات وثائق نادرة وأخرى منسية عن حياة الرجل الذي عاصر ميلاد الدولة التونسية الحديثة، واضطلع لأكثر من عقدين بأخطر المهمات النقابية والوزارية والسياسية في البلاد.

وكان يمسك طيلة حقبة الستينات، كما هو معروف، بمصير التنمية الاقتصادية والاجتماعية حتى أن اسمه وصيته كان ملأ السمع والبصر في كل المجالات تقريباً.. إلا أنه كان الرجل الذي اختلف حوله الناس أجمعين، فقلما جمع رجل بين الكراهية المفرطة أحياناً وبين الإعجاب والتقديس أحياناً أخر، كان الزعيم بورقيبة مفتوناً به وبمواهبه وثباته وقدرته على الإنجاز، لأنه على حد قوله “كان يرى فيه شبابه” فأيده ودفع به إلى أعلى المراتب، ثم انقلب عليه وجرده من كل الخصال التي يغدقها من حوله ثم جره إلى الساحات العامة وتركه لقمة سائغة للدهماء على طريقة “نكبة البرامكة” ثم دفع بخصومه، وهم كثر إلى فبركة محاكمة ظالمة ومرتجلة تضاهي محاكمات الأنظمة الستالينية في أوروبا الشرقية. ثم انتهت مأساة الرجل بدخوله السجن واقترابه قاب قوسين من حبل المشنقة، وبهذه المرحلة الدرامية دخل الحزب والدولة في دوامة الصراعات والإنقسامات، ومنها بدأ العد التنازلي الذي انتهى ببيان السابع من نوفمبر 1987 وما تلاه من أحداث وصلت بتونس إلى ما نشهده اليوم منذ 2011.

لقد كتب الكثير عن فترة الستينات في بلادنا ونشرت شهادات واعترافات من مسؤولين سابقين ومؤرخين تناولوا بأساليب مختلفة تلك الفترة المفصلية من تاريخ تونس الحديث، واجتهد الكتّاب في التفحص في الأسباب والنتائج للنكبات المتتالية التي عاشتها تونس منذ ذلك الوقت.. ولكن كتاب الأستاذ المنصوري جاء اليوم شاملاً في تناوله للعلاقة بين نشأة بن صالح في إحدى قرى الساحل وتدرجه في النضال النقابي ثم انخراطه في البناء الحكومي والحزبي بعد ذلك، وكان حرص الكاتب واضحاً في التأني والتدقيق في بحث المحيط الزمني لتاريخ الرجل والدولة الحديثة مجتهداً في تحليل وفهم أدق المراحل المتداخلة بين الحزب والدولة، وبين تيارات الصراع على الخلافة عند اشتداد المرض على الرئيس بورقيبة، وتأثير ذلك على وهن المؤسسات وانقطاع الصلة بين القمة والناس في البلاد.

ولعله من المفيد أن يكتشف القارئ، على مدى خمسمائة صفحة التي ضمها الكتاب، بمتعة ويسر مسيرة أحمد بن صالح ومشاركته في حكم تونس باعتبارها أحد الأسباب الرئيسية التي أعطت نفساً جديدا للحكم البورقيبي بعد الاستقلال وخاصة منذ مؤتمر بنزرت لسنة 1964. وكان لهذه المشاركة أثر كبير في استقطاب أجيال واسعة من الشباب المثقف المتحمس حول تأييد زعامة بورقيبة وحزبه والدفع بهم للمشاركة في بناء دولة عصرية متقدمة. وشهدت تلك الفترة طفرة بارزة في التشريعات الاجتماعية الجريئة والتقدم الصحي لكافة شرائح المجتمع، وتعميم التعليم، والنهوض بالمرأة وخاصة في الأرياف، وتحسين السكن، وجرى كل ذلك في وقت قياسي، وفي نوع من حمى “الحوار الاشتراكي” مما أعطى للحزب الدستوري نفساً جديداً وللبلاد صورة عصرية مشرقة في الشرق والغرب.

وعند هذا الحد، لا يغفل الكاتب عن الاهتمام بتأثير الصراعات، وسلبياتها، على السلطة وما نتج عنه من اختلال التوازن الجهوي والتنموي في الدولة البورقيبية. ولم يغفل كذلك صاحب الكتاب عن تحليل نتائج وأعراض مرض الزعيم على مختلف دواليب الحكم، وأهم هذه النتائج انفجار صراع الخلافة على الحكم، في غباب دولة المؤسسات وافتقار الحزب إلى الحوار الديمقراطي مما وفر العوامل التي أدت إلى الإسراع في تحميل بن صالح مصاعب “الاشتراكية الدستورية”.

إلا أحداً من رجال الحكم ونخب الحزب –رغم استثناءات قليلة- لم يتفطن إلى التصدع الخطير الذي اعترى مفاصل الدولة والحزب منذ بداية السبعينات، فكان خروج بن صالح –رجل صحوة الستينات- هو نفسه الذي أصبح بعد القضاء عليه سياسياً وبعد “تحريره من السجن” نقطة البداية لانهيار صامت أفضى لمرحلة من الركود في تونس تفاقمت فيها أزمات الحكم وتناقضاته وأدت بالتالي إلى سقوط الزعيم ثم سقوط من جاء بعده.

وبعد قراءة متأملة لهذا الكتاب المرجع يكتشف القارئ أن حضور بن صالح في تاريخ تونس الحديث رغم قصر مدته المادية “قرابة العشر سنوات في شتى الوزارات”، قد امتد تأثيره وحضوره الطاغي طيلة الأربعين سنة الماضية، فكان صيته حاضراً تقريباً في كل المحطات التاريخية التي عاشتها البلاد منذ ذلك الوقت، كما ظلّ يشكّل موضوع جدال وخلاف في جل المناقشات والحوارات التي وردت في مختلف الدراسات الصادرة مما يعتبر علامة بارزة رغم الاختلاف في التقييم والتأييد، وحتى الكراهية الموروثة منها واللامعقولة أحياناً، إلا أن الحضور لرجل الدولة بإنجازاته ونظافة يده ظلّ العلامة البارزة التي صاحبت تطورات ذلك الزمان، وهو زمان تونس وربما زمان الأجيال القادمة.

 

 

المصدر: الصريح


TH1NEWS