ما الذي يمكن أن ننتظره من مخرج يُعطي ثقته للريح؟ ما الذي يمكن أن تفعله الريح بورقة بيضاء صغيرة وضعها المخرج اسماعيل البحري أمام عدسة كاميراه مانعا الصورة من الوصول الى المتفرج؟ في فيلمه الوثائقي “فوايا”، آثر المخرج الشاب اللجوء الى ورقة بيضاء صغيرة حجبت رؤية المشهد الذي صوّره البحري لكنها دفعت بالمتفرج الى قلب تجربة حسية-سمعية خاصة من نوعها. تلك هي التجربة السينمائية التي قادنا اليها المخرج في فيلم “فوايا” الذي افتتح مهرجان “سينما السلام؟” الذي نظمته الجامعة التونسية لنوادي السينما بقاعة الفن الرابع يوم الاربعاء 8 مارس.
في “فوايا”، لم يكن اسماعيل البحري متعصبا للصورة، بل جاء فيلمه متحررا من القوالب السينمائية الكلاسيكية وفتح باب مخيلة المتفرج لكي يصنع بمعاوله الذاتية ملامح الصورة أو المشهد الذي أخفاه المخرج. فطيلة الثلاثين دقيقة، وهي الحيز الزمني الذي استغرقه الفيلم، تظهر للمتفرج صورة واحدة، وهي صورة الورقة البيضاء باهتزازاتها وتموجات الضوء الطبيعي والظلال المنعكسة عليها وما جاد به ذهن المشاهد من صُور مُتخيلة، مقابل ثواني معدودات في نهاية الفيلم ترتفع فيها الورقة البيضاء التي وضعت أمام عدسة الكاميرا بفعل الريح، فيكتشف المتفرج بشكل مفاجئ مشهد قنال حلق الوادي الذي يُفترض أنه شاهده طيلة الفيلم.
بعيدا عن دوغما الصورة، ارتكز العمود الفقري لفيلم “فوايا” على ما هو خارج الصورة (hors-champ)، وقد شكلت أصداء الشارع (وقع الخطوات، صوت السيارات العابرة، الأنفاس، الخ) مع الأحاديث التي تجاذبها المارة مع المخرج جوهره. إذ يستمع المتفرج أو بالأحرى يمتلئ بالشريط الصوتي للفيلم كما بإمكانه متابعة نص الحوارات العفوية التي دارت بين المخرج والمارة مكتوبة وسط الشاشة. بفضل ثلاثية حاسة السمع وملكة القراءة وعامل الفضول، يتابع إذا المتفرج فيلم “فوايا”، مكتشفا وسيلة مختلفة للتعبير السينمائي بما يمكن أن تحمله من تمثلات وتصورات وقراءة متفردة لواقع الشارع التونسي.
تبدو إذا صورة اسماعيل البحري حاملة لفرادة ما. فهو المقدم على الشارع بكاميراه الممانعة بالورقة البيضاء الموضوعة أمام العدسة، وكأنه يذهب لتصويره ويمتنع في نفس الوقت عن ذلك، وكأنه يريد سبر أغواره من دون أن يستعجل الصورة أو يحملها مالا تحتمله، وكأنه يبحث بالاستعانة بالريح عن حقيقة ما بين الحضور والغياب، بين الوجوه والأصوات، بين الستار والميكرو. تلك التي يمكن أن تترك أثرا أشد رسوخا في الذاكرة. قد يكون.
فأن ينصب مخرج كاميراه في الشارع ويضع أمام عدستها ورقة بيضاء أمر مثير للفضول سواء كان ذلك بالنسبة للمتفرج أو للمارة. تجربة توحي لنا بأن المخرج حاول الجمع بين الطرفين في غرفة واحدة فاصلا بينهما بستار عازل (الورقة البيضاء) ليستثير فضولهما، فيسكن كل طرف منهما هاجس نزع الحجاب على ما يمكن أن تخفيه أو تصوره العدسة. ولعل السؤال الذي استوقفنا من بين الأسئلة التي طُرحها المارة على المخرج هو “علاش تصور؟”، أما من جانب المتفرجين فقد ذكرت إحدى مشاهدات الشريط خلال النقاش التي تلا عرضه أنّ “فوايا” بحجبه للصورة أثار مخيلتها ودفعها لرسم هذه الوجوه التي لم تظهر.
أما مضامين الأحاديث التي نقلها الفيلم، فجاءت كاشفة لمواضيع اجتماعية متنوعة ومنها خفة الوجود (الحديث الذي جمعه بالطفلة الصغيرة وببراءة أسئلتها) والتسلط (الحديث الذي دار مع الأمني الذي أعلمه أنه من دوره مراقبة كل ما يحدث) ومعاناة شباب الأحياء (الحديث الذي عبرت فيه مجموعة من الشبان عن مشاكلها قائلة: “الشمس حارقتنا والزطلة حارقتنا والحبس حارقنا والميزيريا حارقتنا”).
ثواني معدودات قبل نهاية الفيلم، تعلن الريح وجودها فترتفع الورقة البيضاء كاشفة المشهد الذي نصب أمامه اسماعيل البحري كاميراه. بعد أزيد من تسع وعشرين دقيقة، ينقشع الصوت والبياض، لتنفضح الصورة بشكل مباغت كالشعلة التي تهدئ النفوس التي طال انتظارها بحثا عن انتعاظ ما. أليست هي عملية قذف تلك التي صورها المخرج اسماعيل البحري في خاتمة فيلمه “فوايا”؟ قذف للحظات معدودة تزامن مع ذروة احساس بالفقد ومعانقة المشهد المتكشف على جزء من قنال حلق الوادي.. هبة ريح تهز الورقة البيضاء الصغيرة فيتراءى المشهد الأخير للمتفرج مثيرا نشوة مكثفة مفتاحها تعري عدسة الكاميرا على زرقة مياه قنال الضاحية الشمالية وأجساد يافعة معلقة تنتشي بمعاودة الغطس في لذة المياه..
ن-ص
المصدر: الجمهورية