شاه التقرير الأوّل عن مجالس الحمامات: راهن الهويّة وأسئلة المستقبل

القائمة الرئيسية

الصفحات

شاهد الفيديو / التقرير الأوّل عن مجالس الحمامات: راهن الهويّة وأسئلة المستقبل / Video Streaming

بقلم حاتم التليلي

في اللقاء الأوّل من مجالس مهرجان الحمامات الدولي في دورته الثالثة والخمسين، الذي انتظم مساء يوم 20 جويلية لهذه السنة، وشارك فيه نخبة من الروائيين والأكاديميين والباحثين والجامعيين، وأداره الأستاذ “فتحي التريكي” بعد كلمة قصيرة رحّب من خلالها مدير المهرجان السيد “معز مرابط” بكافة الضيوف، حدّدت اشكاليته الرئيسية حول مسألة الهوية من جهة تشغيلها في ضوء الراهن الاجتماعي والسياسي والثقافي أيضا، وطرحت جملة من الأسئلة الشائكة التي تخيّم على مجتمعاتنا العربية والمغربية حد السواء ولم تجد لها أجوبة بعد حتى تتخطاها أو تتجاوزها، ولخصها الأستاذ “فتحي التريكي” عبر جملة من الأجهزة المفهومية كالمستقبل والمصير والماهية؛ من نحن أولا؟ ومن نحن في إطار تفاعلنا مع الآخر؟ وما ماهيتنا في هذا العالم؟ وإلى أيّ عرق ننتمي؟ وأي علاقة تجمعنا بالماضي؟ ثم كيف يمكننا استقبال المستقبل ونحن لم ندرك بعد كيفية صناعة الآتي؟

هذه الأسئلة الفلسفية والأنثروبولوجية بما لها من أبعاد إجتماعية واقتصادية وسياسية كانت محور مداخلات كل من “رشيد بوجدرة” و”فريد الزاهي” وأمين الزاوي” و”شكري المبخوت”، أمام جمهور لم يخف رغبته هو الآخر في نقاش هذه المسألة والتعبير عن منظوراته إزاءها.

تناول الجزائريّ “رشيد بوجدرة” هذه المسألة من جهة تشغيل مفهوميّ لمصطلح “المصير” بما هو عنوان كينونتنا المستقبليّة، وقرنه بسؤال “إلى أين نحن ذاهبون؟”. الذّهاب هنا عنوان المسيرة والمسار مع تحديد للهدف والاتجاه، ولكن يبدو أنّ سؤالا كهذا يخفي حيرة كبيرة تنمّ عن عدميّة المسيرة ذاتها، بما هي تتحرّك دون أفق ودون استراتيجيات كما لمّح إلى ذلك هذا الروائي.

لقد استند “بوجدرة” في خطابه إلى محطات تاريخيّة مهمّة شهدت منعطفاتها وتأثيراتها دولة الجزائر، من بينها فترة العشرية السوداء حيث لم تنتج غير كمّ مضاعف من الأموات والخسائر وإراقة الدماء وتشغيل الرعب، ومع ذلك حدّ الآن لم يتمّ تفكيك ارهاصاتها بشكل واضح في نص أساسيّ يترجم أسبابها وملابساتها الغامضة، ما يعني أنّها ظلّت محفوفة بالغموض بشكل لا يمكن للجزائري اليوم أن يقيّم أو أن يحدّد كينونته وماهيته بشكل يجعله يدرك ذاته.

إضافة إلى ذلك وجّه “رشيد بوجدرة” نقدا لاذعا للثورة الجزائرية لأنّها ظلّت في نظره قاصرة على تقديم بدائل اقتصادية بقدر ما انفتحت بشكل كبير على الليبرالية المتوحّشة واقتصاد السوق. ولم يتمالك في هذا الاطار أن سحب صفة الثورة عن المسار الاجتماعي وحراكه الذي شهدته تونس، إلا أنّه استدرك بالقول في معرض ما وصفه “بالأزمات” ليدلي بمنظوره الخاص حولها والمتمثّل في كونها تعدّ ضروريّة ومهمّة ومحطّة هامّة إذ كل الحضارات تمرّ بصدمات كهذه، وهي في نهاية المطاف تعدّ عنوانا لمراكمة الشعوب تجاربها الخاصة.

قد يكون “رشيد بوجدرة” مصيبا في تحليله لما حدث بالجزائر، لكن رأيه حول الوضع التونسي بعد أن شبّه الثورة التونسية بصفتها نوع من إعادة الثورة الجزائريّة ينمّ عن اسقاط مفهوميّ غذّته السرديات الحالية والقائمة على مغالطات سياسية واعلامية كبيرة، ثمّ إنّه ينمّ عن رأي متسرّع بقدر ما لا يفكّك المسار الذي شهده الحراك الاجتماعي في تونس يبحث عن توصيف جاهز.

هذا الرأي لا يمكن اعتباره إلا وليدا ونتيجة لحجم الطعنات التي وجّهت إلى الثورة التونسيّة من حيث طمس طبيعة الصراع الذي نشأت من أجله منذ أن تمّ استبدال الفعل الثوري بالفعل السياسي، لهذا فإنّ مسألة تصنيف الحدث التونسي كونه ثورة من عدمه يظلّ توصيفا سطحيا وقد كان من الأجدر أَشْكَلَةُ هذه المسألة بعمق أكبر.

في المقابل ذهب الباحث والأكاديمي المغربي “فريد الزّاهي” إلى تشغيل فكر “الخطيبي” القائم على النقد المزدوج، ليحذّرنا من مكر الهويّة العمياء والاختلاف المتوحّش وينبّهنا إلى أنّنا بالرغم نعيش ايقاعات متعددة إلا أنّ وعي العربي ظلّ وعيا ومأساويا نتيجة كونه أكبر ممّا يتيحه له الواقع. ومن هذا المنطلق ذهب إلى تشغيل جملة من الأسئلة الحارقة من قبيل لماذا حدّ الآن نعيد طرح ما ذهب إليه روّاد النهضة، ولماذا علينا أن لا ندرك حجم التعدّد في اطار الهوية والغيرية بين الانسان ونوعيته، ثم لماذا رغم كوننا على وعي بهذه المفارقات ظلّ وعينا مرضيّا لا تجاوزيّا.

إضافة إلى ذلك، ضرب “فريد الزاهي” جملة من الأمثلة عن الراهن المغربي الحالي كحجج من خلالها عبّر عن أفول المثقّف وموته نهائيّا بعد أن تحوّل إلى مخبر محض وبعد أن تنكّر لقضايا شعبه ليصبح سلوكها سلوكا أمنيّا لا غير، ومن بين هذه الحجج ساق مثال “حركة 20 فبراير” كقوّة اجتماعية وسياسية نشيطة وكيف تسلّل إليها الاسلاميون وتمّ اكتساحها من قبلهم، ومثال شباب الحراك الريفي الذي تجري معاركه الضارية الآن حيث ظلّ وحيدا في مواجهة النظام وفريسة سعلة للقوى الظلاميّة والأصوليّة.

إن موت المثقّف، لهو معضلة كبرى لا تعانيها المغرب فحسب بل جلّ الدول العربية، وهو إن كان سيكرّس شيئا، فسيكرّس حتما ثقافة الموت وتغوّل السياسيّ دون أدنى مراجعة نقديّة قد تلجم فساده من قبل المثقفين. ثمّة إذن حالة من خيام العدميّة التي تسود مجتمعاتنا، وهي التي ستؤبّد الصراعات الواهية ومعرك بناء المستقبل عبر بوابة المشي إلى الخلف.

من جهة أخرى، ذهب الروائي والباحث “لمين الزاوي” إلى عقد جملة من المقاربات في اطار اجابته عن سؤال “من نحن”، ليقرّ من جهة أثنولوجيّة ضرورة الانتباه إلى أصول الشعوب المغاربية العائدة إلى العرق الأمازيغي أكثر منها العربيّ، ومن جهة ثانيّة شغّل اجابته من منظور يبحث عن ماهيتنا في سياق تفاعلها مع ما هو ميتافيزيقي لينبّه إلى أنّ مأساة الفرد المغاربي تعود في جانب منها إلى الدين الذي حلّ محلّ البعد المواطنيّ حتى أنّ الانسان لم يعد له من كيان غير جانبه المتديّن، وإضافة إلى ذلك ذهب “لمين الزاوي” إلى تشغيل ماهية “النحن” من جهة تاريخية ليقول بضياع تاريخنا الخاص منذ خطبة طارق بن زياد التي وصفها بالكاذبة على حدّ تعبيره، ولعلّة في ذلك يدلي بنوع من الاقصاء الموجّه للعرق العربي خاصّة بعد أن وجّه نقدا لاذعا لارتباطنا بالمشرق أكثر من الثقافة المتوسطية.

ختم “الزاوي” مقارباته بإشكاليتين، الأولى من حيث علاقتنا بالمرأة مدينا مكانتها الاجتماعية الحالية، أمّا الثانية فمن جهة علاقتنا بالآخر/الغرب إذ نحن حدّ الآن لم نحسم طبيعة العلاقة معه وما اذا كنّا ننظر إليه بصفته المستعمر أم الكافر، ولم نستطع بعد التفاعل معه كشريك لصناعة المستقبل.

إن هذه المقاربة الأخيرة تكشف عن مفارقة في خطاب “الزاوي”، فأن نكون شركاء في بناء المستقبل الانسانيّ مع الغرب، فهذا لا يجعلنا نتنبّه فحسب إلى تناقضاتنا الداخليّة كما لو أن المسؤوليّة برمّتنا ملقاة على ظهورنا، بل علينا أن نتنبّه أيضا بالسؤال عن هذا الآخر وما اذا كان يرى فينا شريكا لا فرائس وطرائد بين أشداقه، فالمشترك على ما يبدو مثلما تسوده هشاشتنا تسوده أيضا كولونيالية الغرب.

في ختام كلمته، وكمحاولة لرصد كينونة الماهية المغاربية عرقيا وثقافيا، ذهب الباحث إلى القول أن اشتغالها وجد في ثلاث مواقع، أوّلها ولادة “محمود المسعدي” وكتاباته وثانيها “كاتب ياسين” ورائعته “نجمة” كنوع يتناقض وأسلوبيّة الشرق، أمّا ثالثها فتعود إلى لحظة تاريخية قديمة نسبيا عندما تمّ قضيّة الأمازيغ في سنة 1949.

هذه المواقع الثلاث تظلّ مؤهّلة للنقاش في اعتقادنا، إذ تمّ تشغيلها من منطلق ردّة الفعل وبوعي بافلوفيّ ضدّ المشرق، ما يدفعنا إلى القول بأنّه حتّى ولو تمّ نحت الكيان المغاربي بهذا الشكل المراد به، فإنّه سيجد عجزا من حيث تفاعله بالآخر، لأنّ المشترك يبنى على حسّ حواريّ يترجم جميع الأعراق ويجعل من الثقافات متباينة ومترجمة وأممية لا عرقيّة.

ختم الجامعي والروائيّ التونسي “شكري المبخوت” المجلس الحواري، وذهب في مداخلته إلى تسليط الضوء على الثورة التونسية بما هي مرآة سمحت لنا بإعادة التساؤل عن ماهيتنا كتونسيين، وفي هذا الصدد وجّه نقدا إلى ما ذهب إليه “رشيد بوترعة” بعد أن سحب البساط من تحت الثورة بتجريدها من اسمها، ليذكّر وفقا لمرجعيات تاريخية وفكرية متعدّدة بأن الثورة دائما يصنعها الفلاح بينما يأتي التاجر ليستثمرها، وفي ذلك تلميح منه إلى راهننا الحالي وكيف تحرّك الانفجار الشعبي في مناطق عرفت بكونها بؤر توتّر اجتماعي ثم كيف يتمّ الالتفاف على نتائجه.

كون الثورة مرآتنا، فهي وحدها المخوّلة لكشف عيوبنا بعد أن تعدّدت النعرات القبليّة والجهويات وساد تشغيل مفهوم الهويّة بشكل لا يخلو من عديد المغالطات، وعليه ذهب “المبخوت” إلى القول بأنّها غير ثابتة ومتعددة وهي إن كانت تجد ترجمتها ونحتها كنوع من الصناعة، فإنّها تظلّ مرتبطة تمام الارتباط بسياسات الدولة، وفي هذا الصدد استشهد بالتجربة البورقيبية ليقول بأنّها أجمل القصص الكاذبة ولكنّها الأكثر نجاعة بعد أن دفع الشعب التونسي إلى الاعتقاد بكونه أمّة وصدّق ذلك.

على الرغم من أن “المبخوت” وجد في بورقيبة وسيلة لحججه إلا أنّه وجّه نقدا لتجربته أيضا، إذ ذهب إلى القول إلى أنّ ما فعله على سبيل المثال، في اطار تحرير المرأة، كان مجرّد وهم خالص، فما ذلك إلا نوع من إعادة هندسة المجتمع بشكل مغاير، حتى أنّه عالج المسألة الأسريّة أكثر منها مسألة الأفراد، فلم يكن مؤسسا للحداثة بقدر ما هو يؤجّل اشتغالها إلى المستقبل، وبالتالي فإنّ قصّته سقطت بدورها بعد المسار الثوري.

كان ممكنا في نظر “المبخوت”، أن تحسم “هيئة الحقيقة والكرامة” في جلّ أشكال الثأر القديم بين التونسيين، من اسلاميين وشيوعيين وغيرهما، إلا أنّها هي الأخرى ظلّت رهينة سكتارية بعض الأحزاب فلم تحقّق بعدا تجاوزيا إنّما هي الآن تعطّل ولو بشكل آخر المسار الحداثي القائم على مفهوم الفرد والحريات كأساس للفعل للمواطنيّ.

ختم “المبخوت” مداخلته إلى لفت الانتباه إلى الخطر الحقيقيّ الذي يحدّق بالبلاد، فنفى أن يكون متمثّلا في الاسلاميين بقدر ما هو عائد إلى الليبرالية المتوحّشة القائمة على التجويع والتشريد وما ينجر عنهما من صراعات ونعرات مذهبية ودينية فيما بعد كآلية لطمس طبيعة وجودنا.

أثرت هذه المداخلات برمّتها السجال الدائر حول راهننا، وماضينا، وخوفنا من الآتي الذي نجهل استشرافه أو حتى التنبؤ به، نتيجة افتقارنا إلى أجوبة صارمة وحاسمة في تلك المسائل المتعلّقة بطبيعة كينونتنا ومجتمعاتنا ما يدفعنا قدما إلى ضرورة ممارسة الفعل النقدي وتنمية الحسّ الحواريّ دون تراجع عن ضرورة محاولاتنا المستمرّة في استنطاق المستقبل دون اغفال أو تجاهل أو تنكر للمسارات الثورية التي نمرّ بها، فهي وحدها التي ستعطينا قيمة التقدّم. 

المصدر: الجمهورية