شاه «30 سنة وأنا حاير فيك» لتوفيق الجبالي: خفة مستحبة لحرب ضد كل أشكال الهيمنة

القائمة الرئيسية

الصفحات

شاهد الفيديو / «30 سنة وأنا حاير فيك» لتوفيق الجبالي: خفة مستحبة لحرب ضد كل أشكال الهيمنة / Video Streaming

المسرح… ما المسرح؟ هل هو فضاء للتعبير الحر؟ وسيلة لكسر القيود الداخلية؟ لوح نجاة؟ منصة للتواصل مع الآخر والآخرين؟ فن فقد بريقه ورواده في تونس؟ في عمله الأخير «30 سنة وأنا حاير فيك» الذي احتفى بمرور 30 سنة على بعث مسرح التياترو، وقُدم في افتتاح الدورة 53  لمهرجان الحمامات الدولي يوم السبت 15 جويلية، عبّر توفيق الجبالي عن رؤيته للمسرح كرافد من روافد الذات البشرية التواقة للحياة ولحب الحياة مقدما مشاهد مختارة ضربت بمشرط حاد لحم القناعات الجامدة والسياسات الغبية والشعارات الزائفة والعقليات البائدة.

بخفة مستحبة، كالتي تحدث عنها ميلان كونديرا في كتابه «كائن لا تُحتمل خفته»، خاط توفيق الجبالي قماشته المسرحية. قماشة خفيفة النسيج تداعبها روح اللغة التونسية وتتمايل على وقع نصوص مسرحية رافضة لكل أشكال الهيمنة سواء كانت سياسية أو اجتماعية أو دينية، وهي هيمنة حاربها الجبالي من فضاء التياترو بالعاصمة وأينما قدم عروضه طيلة 30 سنة دون هوادة.

فاستهزأ في مشهد «الرئيس وابنه السخيف» من حال السياسيين «إلي صارو ضحكة بين الأجيال».. وسخر في مشهد «المغنية الباكية» من الفصل الأول من الدستور ومن الفصول الأخرى التي نصت على حماية حرية المعتقد والضمير في تضارب تام مع ما نراه اليوم من انتهاك للحريات. وانتقد في مشهد «السكيرين» التعلق المرضي للبعض بالشعارات الجوفاء مثل «إني اخترتك يا وطني»، -فهل يمكن للفرد أن يختار وطنه- ومن الأسئلة الإعلامية الفارغة على غرار «وين كنت نهار 14 جانفي؟» وعرى في مشهد «الديليريوم الرياضي ـ السياسي ـ الإعلامي» تمثلات الفوضى التي دخلت فيها البلاد حتى بتنا لا نعرف ماذا يفعل الخصوم ببعضهم البعض!! كما استهجن في مشهد «قاعة الانتخابات الممتلئة بأكياس النفايات” ما آلت اليه المواعيد الانتخابية التي فقد فيها المواطن بصيرته وأضحى رهين لعبة سياسية متعفنة.

كل ذلك بمشهدية اعتمدت على تصور ركحي راوح بين النفس البهيج (المشهد النهائي للعمل الذي ظهر فيه الرئيس الجديد للبلاد) والحالم-السريالي (مشهد النساء اللاتي أطلقن فساتينهن الطويلة) والمجنون (مشهد البلاد المبنية على رأس كلب)، وهي انفاس طبع بها الجبالي عمله ليكشف الكثير من ذاته المتصالحة مع طرحه المسرحي، طرح منفتح على الفكر واللغة والأجساد والألوان.

وقد تكون المسألة التي تسكن توفيق الجبالي مسألة مسافات، وكأنّه بمختلف المشاهد التي عرضها يدعو لإبقاء مسافات عن الأشياء والمواضيع والقناعات التي تنقاد اليها عامة الناس دون إدراك ودون تفكير ودون تمعن، فالأغلبية منجذبة لقوالب اجتماعية سهلة لا مجال فيها لمساءلة الذات أو مناقشة الجوهر، بل يذهب توفيق الجبالي لأبعد من ذلك عندما يقول مثلا في منعطف أحد المشاهد «توا الحرب وقتاش؟.. بعدما يوفى معرض العروسة بالكرم»، وكأن المسائل المصيرية أضحت عند الشعب التونسي مرتبطة بتواريخ سطحية وبعناوين تافهة..

 يدعو الجبالي إذن لتحطيم مختلف الصروح التي بنيت «على رأس كلب»، وقد جاء في أحد المشاهد المميزة للمسرحية أن منقبيْ آثار ظلاّ يحفران بحثا في تاريخ البلاد حتى عثرا على رأس كلب مما يفسر الأوضاع التي نعيش على وقعها اليوم.

غير أن المدقق في عمل الجبالي، يلاحظ بعدا آخر تجاوز البعد النقدي الصرف، فقد أغدق واضع «كلام الليل» و«فهمتلا» و«صفر فاصل» و«التابعة» وغيرها من الأعمال المسرحية، أغدق على ركحه طاقة شبابية متدفقة، طاقة شبابية كوّنها في «التياترو ستيديو» وأعطاها ثقته لتشحن عمله ديناميكية مرحة، ولعل الكلمة الأخيرة التي أعطاها الجبالي لطفل لا يتجاوز عمره 7 سنوات في دور رئيس تونس الجديد ليست الا أفضل دليل على هذا المسرح الجامع المنفتح النابذ لفكرة الأجيال ولفكرة السن والخبرة، فالكل ـ سواء كان من الهواة أو المحترفين ـ بإمكانه أن يقدم الاضافة إذا كان متحررا وممتلئا بنسغ الحياة وبثقافتها.

شيراز بن مراد

المصدر: الجمهورية