شاه خواطر بقلم الاعلامي لطفي الفهري: النخلة والحمامة

القائمة الرئيسية

الصفحات

شاهد الفيديو / خواطر بقلم الاعلامي لطفي الفهري: النخلة والحمامة / Video Streaming

وقف الشيخ راشد أمام نخلة باسقة عالية شامخة جدائلها لامست عنان السماء عراجينها مثقلة في دلال وبهاء بشتّى أنواع البلح والتّمور (بيض حمام ـ الباجو ـ الترنج ـ البلح الوردي / أو الزغلول كما يسمّى في الصعيد المصري/ وأحلى نوع من دقلة النور).
تذكّر الشيخ راشد أيامه الخوالي حين كان صغيرا يلهو ويدور في غابات النّخيل بحامّة قابس بكل حركيّة وحبور لكن الطفل راشد كان يعاني من عقدة منعته من تسلّق أيه نخلة لأنه يخاف من عملية الهبوط ومخلفات السّقوط.. وكان يحفظ عن ظهر قلب ما قاله عمّنا الجميل عبد الرحمان الأبنودي:
الواد بيقول عمري ما طلعت نخلة
قالولو: عمرك ما طلعت نخلة؟
مع انّي شفت اطفال في سنّي
اطفال موش اكبر منّي
طالعين بطريقة سهلة
ومن غير ما يحلم زيّي
أبقى عصفورة تضرب بجناحها
وتعلا وتحطّ ع الجريد
أنا شفت واد صغيّر
طالع بطريقة تحيّر
بسرعة بسرعة زيّ القطر الحديد
هو بيطلع وأنا شايف..
أنا شايف لكن خايف..
مع اني واقف بعيد
نفسي يا ناس اطلع نخلة
وانزل بطريقة سهلة
زي الواد الصغيّر واحصّل الجريد
وأجيب البلح الوردي
واملاه بجيبي ويديّ
ادي البلح في مكانو
واديني انا في مكاني
لسّة واقف بعيد..
وباين انّي لسهة باحلم
أبقى عصفورة
تضرب بجناحها وتعلا
وتحط على الجريد
لم يصدّق الطفل رشاد وقد اصبح بعد شيخا ان يجد نفسه من جديد امام هذه النخلة التي يمكن ان تحلّ العقدة وتمنحه فرصة الصعود ويلامس من فوقها السماء ولم يصدّق ان تلك العصفورة تحوّلت الى حمامة زرقاء..
أدي الحمامة تضرب بجناحها وتعلا وتحط عالجريد وتبني عشّها وتسعد كما تريد وتصدح صباحا مساء بالغناء والتغريد..
الشيخ راشد يتذكر قصيدة الأبنودي من جيد ويقول يا عمّنا الجميل:
أديني طلعت النخلة..
وبطريقة سهلة.. وحصّلت الجريد
بسرعة بسرعة زيّ القطر الحديد
وآهو البلح الوردي أملاه بجيبي ويدي
وأديني فوق النخلة اشوف الدنيا احلى
رحمك الله يا محمود درويش عندما قلت:
علّقوني على جدائل نخلة
واشنقوني فلن أخون النخلة
أحوال النخلة تسوء يوما بعد يوم ومنذ شهور وعراجينها جفّت وفي حزن شديد بكت وغنّت: رفّ الحمام وغرّد يا داده.. كنّك ناوي تعذبني يا داده.. حدّ الله بيني وبينك يا داده بازعل لما تعاتبني وترميني بطرف عينك يا داده..
الحمام الذي عشّش بين مفاصل النّخلة تحوّلت فصيلة منه الى صقور تهدّد العصافير والطيور..
الحمائم أكلت كل أنواع التمور وأمّا الصّقور فقد اتلفت عراجين دقلة النور.
قالت النخلة وقد ناحت بقربها حمامة: أيا جارتاه ترى هل تشعرين بحالي؟.. فردّت الحمامة وقد رقّ لها قلبها (أش بيك تلاجي يا نخلة اش بيك تلاجي؟ تحبّي يرجعلك سي الباجي) ولكن الباجي لن يعود.. بعد ان ملّ شطحات أهل النخلة وتجاوزت كل الحدود وأصيبت النخلة بسوسة النخيلة وهي حشرة جاءت من آفة التناحر والتراشق بالتهم والتدافع والقال والقيل.. لقد طاروا بأجنحة التكالب على المناصب ورموا نخلتهم بحجارة من سجّيل وقريبا ستصبح النخلة كعصف مأكول.. عراجينها خاوية وسترتدّ الواحة بأكملها الى قاع الهاوية..
صاحب النخلة نائم في قصر قرطاج.. وذات ليلة رأى في منامه كابوسا مزعجا رأى نفسه يشرب من ماء مالح أجاج وحشرة عملاقة كالدينصور تأكل نخلته بشراهة وسرور تخصف الجدائل وتلوك ما تبقّى من التمور ثم اقتلعتها بعنف من الجذور وأخذتها بين فكّيها كسيجار فيدال كاسترو المشهور.. فاستيقظ مرتعدا ومذعورا وطلب من رئيس ديوانه ان يحضر شيوخ سيدي بلحسن الشادلي لتفسير هذه الرؤيا التي قد تنطوي على المخاطر والشرور.. المفسّرون عجزوا عن فكّ رموز الرؤيا بما في ذلك كبير الجامع المعمور.. أحد مستشاريه يعلمه انّ هناك في البلاد فتى مغمورا اسمه يوسف وكان يعنى بالشؤون المحلّية ولديه موهبة ربّانية في تفسير الأحلام وكشف المستور وبسرعة دعي يوسف الى الحضور وفسّر الرؤيا في وقت وجيز وقصير وأثبت انّه عالم وخبير..
سيدي،
النخلة هي الدولة والحشرة العملاقة هي الارهاب والفساد والتخاذل والتقصير.. صاحب القصر أعجبه التفسير فعينه في منصب الوزير الكبير دون تردّد أو تفكير.. وفي رسالة التكليف يطلب منه ان يفكر برويّة وان يرفع من شأن الرعية وان يخلّص البلاد من الارهاب والفساد والفوضى المجانيّة وانقاذ النخلة من سوء المصير.
لكنّ الرياح جرت بما لا تشتهي السفن لقد هبّت في وجهه عواصف رعديّة مصحوبة بالصواعق والمطر وبعض القراصنة يهاجمون السّفينة من كل جهة قصد اغراقها في لمح البصر ويوسف لم يكن حاسما في صدّهم ودرء الخطر.
زليخة غلّقت الأبواب أمام يوسف ودعته الى نفسها لكنّه تملّص منها واعتذر بل حاول ان يهرب ويفرّ فاتّهمته بالمراودة والخيانة وعدم غضّ البصر.. وحكيم القصر يدين زليخة.. يوسف قميصه قدّ من دُبُر.

المصدر: الجمهورية