شاه مقتطف من رواية «صفاء» للمناضل جلبار نقّاش

القائمة الرئيسية

الصفحات

شاهد الفيديو / مقتطف من رواية «صفاء» للمناضل جلبار نقّاش / Video Streaming

اثارت شهادة جلبار نقاش في جلسات الاستماع لهيئة الحقيقة والكرامة الكثير من الاهتمام وقد اخترنا نشر مقتطف عن روايته CRISTAL  نقلها الى العربية محمد معالي…

“اعتُقلتُ أنا ونور الدين في ديسمبر 1972، وحُكم علينا بالسجن لمدة عام، وفي حين كنّا لا نزال رهن الاعتقال في أفريل 1974 بتعلّة واهية، أخلي سبيل اثنين من رفاقنا اللذين وُجّهت لهما نفس التهمة، إثر صدور حكم بعدم سماع الدعوى في حقّهما. لقد عاملونا بشكل مختلف: وبعد اعتقال عشرات من المناضلين من أقصى اليسار خلال شهري نوفمبر وديسمبر 1973، ونظرا لأننا نُعتبَر مؤسّسَيْ المنظمة فقد عملوا على عدم إتاحة الفرصة لنا كي نُعيد بناءها.
كنّا نتوقع إذن أن يتمكّنوا من إيجاد الصيغة “القانونيّة” التي تُتيح لهم إبقاءنا في السجن. وكنا نعلم أن حاكم التّحقيق كان ينتظر صدور أمر رئاسيّ لكي لا يتحمّل المسؤولية شخصيّا. وفي شهر فيفري التحقَت بنا مجموعة من رفاقنا الشبّان، ولكنّنا كنا معزولين عن بعضها في زنزانات فردية، بعد أن صودرت منّا الكتب والأوراق والأقلام وحتّى أقلام الرصاص لمنعنا من التواصل فيما بيننا، ومع الخارج خاصّة.
ثمّ جاء الأمر الرئاسي، يوم 20 أفريل، عقب احتجاجات طلاّبيّة شهدتها الجامعة قبل يوم، ليُلغي العفو الذي أُخلي بمقتضاه سبيل خمسة منّا سنة 1970، بعد قضاء عامين في السجن، وكانت التعلّة التي بُرّر بها هذا الإجراء هي القضيّة المطروحة على أنظار محكمة أمن الدولة. وهذا يعني بالنسبة لي قضاء 14 سنة أخرى في السجن.
قد يعتقد المرء أن المرسوم غير معقول، وغير قابل للتّطبيق، وأمر لا يُصدّق، إذ كيف يمكن لتوجيه تهمة أن يكون دليل إدانة؟ ثمّ إنّ هذا التّتبّع سوف يُفضي إلى عدم سماع الدعوى وترك السبيل وعندها سوف نُغادر السجن. وعلاوة على ذلك فلا يُمكن للرّأي العام إلا أن يتفاعل، كما أن رفاقنا وأصدقاءنا في الخارج سوف لن يسكتوا عن فضيحة التراجع، بعد أربع سنوات، عن عفو أريد له أن يكون علامة تحوّل سياسيّ، وتخلّيا عن القمع الذي رافق الدّولنة وسياسة التعاضد الإجباري…
نعم، قد يُساعد كلّ هذا على تَحمّل الصدمة. ولكنّنا أحسسنا، مع ذاك، باهتزاز داخليّ. تصوّر أنك تُجلب إلى مكتب للقاء رجلين مُتأنّقَين وواثقَين من نفسيهما. يُبدي أحدهما، وهو بدين أحمر الوجه، نوعا من الارتياح وهو يُبلغك القرار، بينما يبدو الثاني مُحرَجًا، فهو لا دخل له، وإنما طُلب منه أن يُبلغك. هل أن من حقّه أن بفعل ذلك ؟ نعم هذا من حق الرئيس طبعا، ولا مجال للاعتراض أو الاحتجاج. ولكن في المجال السياسي، كلّ شيء يمكن أن يتغيّر، وقد يكون ذلك قريبا … كيف؟ ترغبون في الاطلاع على الأمر الرئاسي الأول الصادر في مارس 1970؟ هذا ليس من صلاحياتنا، نحن مُكلّفون بإبلاغ محتوى الأمر الأخير لا غير. تحلّوا بالشجاعة، هذا ما سمح أحد الرجلين لنفسه بأن يقول. أمّا بالنسبة لابتهاج هذا الحارس النذل الذي يُرافقني، فإن من الأكيد أنّه لا ينتظر سوى ذريعة لضربي، ليَضُمّ حصّته الصغيرة التافهة من القمع إلى هذا التعسف الهائل، كان يُمكن أن أصرخ وأبصق وأرمي الشجاعة على وجه هذا الرجل البدين الذي سيعود إلى بيته مرتاح البال لتناول طعام الغداء مع زوجته وأطفاله، وقد يقول في الأثناء: “لقد أبلغت منذ قليل خمسة أشخاص بأنّه لا يزال عليهم أن يُقَضّوا العديد من السنوات في السجن”. وأنا أرفض أن أن أتيح له الفرصة كي يُضيف، “كانوا يائسين. وليس لديهم المؤهّلات المطلوبة بالنسبة لأناس يسعون لتفجير ثورة”. هذا من ناحية، ولكنّني كنت أشعر، من ناحية أخرى، بأن قدميّ لم تعودا قادرتين على حملي، وبفراغ فظيع في رأسي، وكان ينتابني شعور بالعجز … هذا كلّ شيء، هم يستطيعون أن يفعلوا بنا ما شاؤوا، أن يخلوا سبيلنا، أو أن يُدخلونا السجن إن أرادوا! اللعنة! اللعنة! 14 سنة سجنا يا صاحبي.
لقد مرّت علينا حتّى الآن ثلاث سنوات، كانت معظم أيامها كئيبة.
تَعيش في عزلة، دون كُتب، تُشاهد أشعة الشمس تتسلّل عبر النافذة المرتفعة جدا وهي تسلك مسارها، فتقع أولا على حصير الحلفاء المُلقى على الأرض والذي تُطلق عليه في السجن تسمية “بيّاص”، ثمّ على الصّندوق الكرتونيّ الذي يَحوي المؤونة، لتصلَ الجدار المقابل والباب – وهذا هو موعد وصول الحراس بعد الظهر- وتَتسلّق أشعة الشمس الجدار وتضيق رقعتها لتأخذ شكل مستطيل صغير ثمّ تتلاشى. تُشاهد أحيانا حُبيْبات الغبار تتراقص في شعاع الشمس. ومن المدهش، أنّكَ تستعيد ردود فعل الطفل الذي كُنته، فالغبار منتشر في كل مكان من الغرفة، وأنت تتنفّسه باستمرار، ولكنّك لا تراه إلاّ عندما يمرّ عبر الأشعّة التي تتسلّل عبر النافذة. تلهو لبضع دقائق أو لبضع ساعات، بتوجيه دخان سيقارتك نحو شعاع الشمس، والنظر إلى الدوّامات التي يُحدثها وتسعى إلى فكّ تلك الأشكال، ومحاولة خلق أشكال أخرى…
بلغنا أن قرار سحب العفو قد نُشر على الصفحات الأولى من الجرائد، إلى جانب أخبار حول التتبّعات القضائيّة التي عقبت “التظاهر في الطريق العام” يوم 19 أفريل. وكان الربط بين الخبرين بديهيّا بالنسبة لنا: لقد أرادوا أن يُظهروا أنّهم يتصرّفون بحزم فكنّا نحن الدليل والضحيّة.
وبعد خمسة عشر يوما، كنا في برج الرومي”.

المصدر: الجمهورية